فصل: الآية رقم ‏(‏ 101 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 101 ‏)‏

‏{‏وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وممن حولكم من الأعراب منافقون‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ أي قوم منافقون؛ يعني مزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع‏.‏ ‏}‏ومن أهل المدينة مردوا على النفاق‏}‏ أي قوم مردوا على النفاق‏.‏ وقيل‏{‏مردوا‏}‏ من نعت المنافقين؛ فيكون في الكلام تقديم وتأخير، المعنى‏.‏ ومن حولكم من الأعراب منافقون مردوا على النفاق، ومن أهل المدينة مثل ذلك‏.‏ ومعنى‏{‏مردوا‏}‏ أقاموا ولم يتوبوا؛ عن ابن زيد‏.‏ وقال غيره‏:‏ لجوا فيه وأبوا غيره؛ والمعنى متقارب‏.‏ وأصل الكلمة من اللين والملامسة والتجرد‏.‏ فكأنهم تجردوا للنفاق‏.‏ ومنه رملة مرداء لا نبت فيها‏.‏ وغصن أمرد لا ورق عليه‏.‏ وفرس أمرد لا شعر على ثنته‏.‏ وغلام أمرد بين المرد؛ ولا يقال‏:‏ جارية مرداء‏.‏ وتمريد البناء تمليسه؛ ومنه قوله‏{‏صرح ممرد‏}‏النمل‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وتمريد الغصن تجريده من الورق؛ يقال‏:‏ مرد يمرد مرودا ومرادة‏.‏ ‏}‏لا تعلمهم نحن نعلمهم‏}‏ هو مثل قوله‏{‏لا تعلمونهم الله يعلمهم‏}‏الأنفال‏:‏ 60‏]‏ على ما تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا تعلم يا محمد عاقبة أمورهم وإنما نختص نحن بعلمها؛ وهذا يمنع أن يحكم على أحد بجنة أو نار‏.‏

قوله تعالى‏{‏سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بالأمراض في الدنيا وعذاب الآخرة‏.‏ فمرض المؤمن كفارة، ومرض الكافر عقوبة‏.‏ وقيل‏:‏ العذاب الأول الفضيحة بإطلاع النبي صلى الله عليه وسلم عليهم؛ على ما يأتي بيانه في المنافقين‏.‏ والعذاب الثاني عذاب القبر‏.‏ الحسن وقتادة‏:‏ عذاب الدنيا وعذاب القبر‏.‏ ابن زيد‏:‏ الأول بالمصائب في أموالهم وأولادهم، والثاني عذاب القبر‏.‏ مجاهد‏:‏ الجوع والقتل‏.‏ الفراء‏:‏ القتل وعذاب القبر‏.‏ وقيل‏:‏ السباء والقتل‏.‏ وقيل‏:‏ الأول أخذ الزكاة من أموالهم وإجراء الحدود عليهم، والثاني عذاب القبر‏.‏ وقيل‏:‏ أحد العذابين ما قال تعالى‏{‏فلا تعجبك أموالهم - إلى قول - إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا‏}‏التوبة‏:‏ 55‏]‏‏.‏ والغرض من الآية اتباع العذاب، أو تضعيف العذاب عليهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 102 ‏)‏

‏{‏وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم‏}‏

أي ومن أهل المدينة وممن حولكم قوم أقروا بذنوبهم، وآخرون مرجون لأمر الله يحكم فيهم بما يريد‏.‏ فالصنف الأول يحتمل أنهم كانوا منافقين وما مردوا على النفاق، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في عشرة تخلفوا عن غزوة تبوك فأوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد‏.‏ وقال بنحوه قتادة وقال‏:‏ وفيهم نزل ‏}‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏التوبة‏:‏ 103‏]‏؛ ذكره المهدوي‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ كانوا ثمانية‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا ستة‏.‏ وقيل‏:‏ خمسة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ نزلت الآية في أبي لبابة الأنصاري خاصة في شأنه مع بني قريظة؛ وذلك أنهم كلموه في النزول على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأشار لهم إلى حلقه‏.‏ يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم يذبحهم إن نزلوا، فلما افتضح تاب وندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وأقسم ألا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت؛ فمكث كذلك حتى عفا الله عنه، ونزلت هذه الآية، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحله؛ ذكره الطبري عن مجاهد، وذكره ابن إسحاق في السيرة أوعب من هذا‏.‏ وقال أشهب، عن مالك‏:‏ نزلت ‏}‏وآخرون‏}‏ في شأن أبي لبابة وأصحابه، وقال حين أصاب الذنب‏:‏ يا رسول الله، أجاورك وأنخلع من مالي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏يجزيك من ذلك الثلث وقد قال تعالى‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها‏}‏التوبة 103‏]‏ ورواه ابن القاسم وابن وهب عن مالك‏.‏ والجمهور أن الآية نزلت في شأن المتخلفين عن غزوة تبوك، وكانوا ربطوا أنفسهم كما فعل أبو لبابة، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي يطلقهم ويرضى عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين‏)‏ فأنزل الله هذه الآية؛ فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم‏.‏ فلما أطلقوا قالوا‏:‏ يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك، فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا‏)‏ فأنزل الله تعالى‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ الآية‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كانوا عشرة أنفس منهم أبو لبابة؛ فأخذ ثلث أموالهم وكانت كفارة الذنوب التي أصابوها‏.‏ فكان عملهم السيئ التخلف بإجماع من أهل هذه المقالة‏.‏ واختلفوا في الصالح؛ فقال الطبري وغيره‏:‏ الاعتراف والندم‏.‏ وقيل‏:‏ عملهم الصالح الذي عملوه أنهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وربطوا أنفسهم بسواري المسجد وقالوا‏:‏ لا نقرب أهلا ولا ولدا حتى ينزل الله عذرنا‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ بل العمل الصالح غزوهم فيما سلف من غزو النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذه الآية وإن كانت نزلت في أعراب فهي عامة إلى يوم القيامة فيمن له أعمال صالحة وسيئة؛ فهي ترجى‏.‏ ذكر الطبري عن حجاج بن أبي زينب قال‏:‏ سمعت أبا عثمان يقول‏:‏ ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله تعالى‏{‏وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا‏}‏‏.‏

وفي البخاري عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا‏:‏ ‏(‏أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم‏:‏ أذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قالا لي هذه جنة عدن وهذاك منزلك قالا‏:‏ أما القوم الذي كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم‏)‏‏.‏ وذكر البيهقي من حديث الربيع بن أنس عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الإسراء وفيه قال‏:‏ ‏(‏ثم صعد بي إلى السماء‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ ثم ذكر الحديث إلى أن ذكر صعوده إلى السماء السابعة فقالوا‏:‏ ‏(‏حياه الله من أخ وخليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء فإذا برجل أشمط جالس على كرسي عند باب الجنة وعنده قوم بيض الوجوه وقوم سود الوجوه وفي ألوانهم شيء فأتوا نهرا فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء ثم إنهم أتوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء ثم دخلوا النهر الثالث فخرجوا منه وقد خلصت ألوانهم مثل ألوان أصحابهم فجلسوا إلى أصحابهم فقال يا جبريل من هؤلاء بيض الوجوه وهؤلاء الذين في ألوانهم شيء فدخلوا النهر وقد خلصت ألوانهم فقال هذا أبوك إبراهيم هو أول رجل شمط على وجه الأرض وهؤلاء بيض الوجوه قوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم - قال - وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا فتاب الله عليهم‏.‏ فأما النهر الأول فرحمة الله وأما النهر الثاني فنعمة الله‏.‏ وأما النهر الثالث فسقاهم ربهم شرابا طهورا‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ والواو في قوله‏{‏وآخر سيئا‏}‏ قيل‏:‏ هي بمعنى الباء، وقيل‏:‏ بمعنى مع؛ كقولك استوى الماء والخشبة‏.‏ وأنكر ذلك الكوفيون وقالوا‏:‏ لأن الخشبة لا يجوز تقديمها على الماء، و‏}‏آخر‏}‏ في الآية يجوز تقديمه على الأول؛ فهو بمنزلة خلطت الماء باللبن‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 103 ‏)‏

‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ اختلف في هذه الصدقة المأمور بها؛ فقيل‏:‏ هي صدقة الفرض؛ قال جويبر عن ابن عباس، وهو قول عكرمة فيما ذكر القشيري‏.‏ وقيل‏:‏ هو مخصوص بمن نزلت فيه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم ثلث أموالهم، وليس هذا من الزكاة المفروضة في شيء؛ ولهذا قال مالك‏:‏ إذا تصدق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث؛ متمسكا بحديث أبي لبابة‏.‏ وعلى القول الأول فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي بظاهره اقتصاره عليه فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه وزوالها بموته‏.‏ وبهذا تعلق مانعو الزكاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقالوا‏:‏ إنه كان يعطينا عوضا منها التطهير والتزكية والصلاة علينا وقد عدمناها من غيره‏.‏ ونظم في ذلك شاعرهم فقال‏:‏

أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر

وإن الذي سألوكم فمنعتم لكالتمر أو أحلى لديهم من التمر

سنمنعهم ما دام فينا بقية كرام على الضراء في العسر واليسر

وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة، وفي حقهم قال أبو بكر‏:‏‏(‏والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة‏)‏‏.‏ ابن العربي‏:‏ أما قولهم إن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتحق به غيره فهو كلام جاهل بالقرآن غافل عن مأخذ الشريعة متلاعب بالدين؛ فإن الخطاب في القرآن لم يرد بابا واحدا ولكن اختلفت موارده على وجوه، فمنها خطاب توجه إلى جميع الأمة كقوله‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة‏}‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏{‏يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام‏}‏البقرة‏:‏ 183‏]‏ ونحوه‏.‏ ومنها خطاب خص به ولم يشركه فيه غيره لفظا ولا معنى كقوله‏{‏ومن الليل فتهجد به نافلة لك‏}‏الإسراء‏:‏ 79‏]‏ وقوله‏{‏خالصة لك‏}‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏‏.‏ ومنها خطاب خص به لفظا وشركه جميع الأمة معنى وفعلا؛ كقوله ‏}‏أقم الصلاة لدلوك الشمس‏}‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏ الآية‏.‏ وقوله‏{‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله‏}‏النحل‏:‏ 98‏]‏ وقوله‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏النساء‏:‏ 102‏]‏ فكل من دلكت عليه الشمس مخاطب بالصلاة‏.‏ وكذلك كل من قرأ القرآن مخاطب بالاستعاذة‏.‏ وكذلك كل من خاف يقيم الصلاة بتلك الصفة‏.‏ ومن هذا القبيل قوله تعالى‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها‏}‏‏.‏ وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى‏{‏يا أيها النبي اتق الله‏}‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ و‏}‏يا أيها النبي إذا طلقتم النساء‏}‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏من أموالهم‏}‏ ذهب بعض العرب وهم دوس‏:‏ إلى أن المال الثياب والمتاع والعروض‏.‏ ولا تسمي العين مالا‏.‏ وقد جاء هذا المعنى في السنة من رواية مالك عن ثور بن زيد الديلي عن أبي الغيث سالم مولى ابن مطيع عن أبي هريرة قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا ورقا إلا الأموال الثياب والمتاع‏.‏ الحديث‏.‏ وذهب غيرهم إلى أن المال الصامت من الذهب والورق‏.‏ وقيل‏:‏ الإبل خاصة؛ ومنه قولهم‏:‏ المال الإبل‏.‏ وقيل‏:‏ جميع الماشية‏.‏ وذكر ابن الأنباري عن أحمد بن يحيى ثعلب النحوي قال‏:‏ ما قصر عن بلوغ ما تجب فيه الزكاة من الذهب والورق فليس بمال؛ وأنشد‏:‏

والله ما بلغت لي قط ماشية حد الزكاة ولا إبل ولا مال

قال أبو عمر‏:‏ والمعروف من كلام العرب أن كل ما تمول وتملك هو مال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول ابن آدم مالي مالي وإنما له من ماله ما أكل فأفنى أو لبس فأبلي أو تصدق فأمضي‏)‏‏.‏ وقال أبو قتادة‏:‏ فأعطاني الدرع فابتعث به مخرفا في بني سلمة؛ فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام‏.‏ فمن حلف بصدقة ماله كله فذلك على كل نوع من ماله، سواء كان مما تجب فيه الزكاة أو لم يكن؛ إلا أن ينوي شيئا بعينه فيكون على ما نواه‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن ذلك على أموال الزكاة‏.‏ والعلم محيط واللسان شاهد بأن ما تملك يسمى مالا‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ مطلق غير مقيد بشرط في المأخوذ والمأخوذ منه، ولا تبيين مقدار المأخوذ ولا المأخوذ منه‏.‏ وإنما بيان ذلك في السنة والإجماع‏.‏ حسب ما نذكره فتؤخذ الزكاة من جميع الأموال‏.‏ وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة في المواشي والحبوب والعين، وهذا ما لا خلاف فيه‏.‏ واختلفوا فيما سوى ذلك كالخيل وسائر العروض‏.‏ وسيأتي ذكر الخيل والعسل في ‏}‏النحل‏}‏ إن شاء الله‏.‏ روى الأئمة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة‏)‏‏.‏ وقد مضى الكلام في ‏}‏الأنعام‏}‏ في زكاة الحبوب وما تنبته الأرض مستوفى‏.‏ وفي المعادن في ‏}‏البقرة‏}‏ وفي الحلي في هذه السورة‏.‏ وأجمع العلماء على أن الأوقية أربعون درهما؛ فإذا ملك الحر المسلم مائتي درهم من فضة مضروبة - وهي الخمس أواق المنصوصة في الحديث - حولا كاملا فقد وجبت عليه صدقتها، وذلك ربع عشرها خمسة دراهم‏.‏ وإنما اشترط الحول لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول‏)‏‏.‏ أخرجه الترمذي‏.‏ وما زاد على المائتي درهم من الورق فبحساب ذلك من كل شيء منه ربع عشره قل أو كثر؛ هذا قول مالك والليث والشافعي وأكثر أصحاب أبي حنيفة وابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق وأبي عبيد‏.‏ وروي ذلك عن علي وابن عمر‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ لا شيء فيما زاد على مائتي درهم حتى تبلغ الزيادة أربعين درهما؛ فإذا بلغتها كان فيها درهم وذلك ربع عشرها‏.‏ هذا قول سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وطاوس والشعبي والزهري ومكحول وعمرو بن دينار وأبي حنيفة‏.‏

وأما زكاة الذهب فالجمهور من العلماء على أن الذهب إذا كان عشرين دينارا قيمتها مائتا درهم فما زاد أن الزكاة فيها واجبة؛ على حديث علي، أخرجه الترمذي عن ضمرة والحارث عن علي‏.‏ قال الترمذي‏:‏ سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال كلاهما عندي صحيح عن أبي إسحاق، يحتمل أن يكون عنهما جميعا‏.‏ وقال الباجي في المنتقى‏:‏ وهذا الحديث ليس إسناده هناك، غير أن اتفاق العلماء على الأخذ به دليل على صحة حكمه، والله أعلم‏.‏ وروي عن الحسن والثوري، وإليه مال بعض أصحاب داود بن علي على أن الذهب لا زكاة فيه حتى يبلغ أربعين دينارا‏.‏ وهذا يرده حديث علي وحديث ابن عمر وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارا نصف دينار، ومن الأربعين دينارا دينارا؛ على هذا جماعة أهل العلم إلا من ذكر‏.‏

اتفقت الأمة على أن ما كان دون خمس ذَود من الإبل فلا زكاة فيه‏.‏ فإذا بلغت خمسا ففيها شاة‏.‏ والشاة تقع على واحدة من الغنم، والغنم الضأن والمعز جميعا‏.‏ وهذا أيضا اتفاق من العلماء أنه ليس في خمس إلا شاة واحدة؛ وهي فريضتها‏.‏ وصدقة المواشي مبينة في الكتاب الذي كتبه الصديق لأنس لما وجهه إلى البحرين؛ أخرجه البخاري وأبو داود والدارقطني والنسائي وابن ماجة وغيرهم، وكله متفق عليه‏.‏ والخلاف فيه في موضعين أحدهما في زكاة الإبل، وهي إذا بلغت إحدى وعشرين ومائة فقال مالك‏:‏ المصدق بالخيار إن شاء أخذ ثلاث بنات لبون، وإن شاء أخذ حقتين‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ وقال ابن شهاب‏:‏ فيها ثلاث بنات لبون إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة فتكون فيها حقة وابنتا لبون‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ ورأيي على قول ابن شهاب‏.‏ وذكر ابن حبيب أن عبدالعزيز بن أبي سلمة وعبدالعزيز بن ابن حازم وابن دينار يقولون بقول مالك‏.‏ وأما الموضع الثاني فهو في صدقة الغنم، وهي إذا زادت على ثلاثمائة شاة وشاة؛ فإن الحسن بن صالح بن حي قال‏:‏ فيها أربع شياه‏.‏ وإذا كانت أربعمائة شاة وشاة ففيها خمس شياه؛ وهكذا كلما زادت، في كل مائة شاة‏.‏ وروي عن إبراهيم النخعي مثله‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ في مائتي شاة وشاة ثلاث شياه، ثم لا شيء فيها إلى أربعمائة فيكون فيها أربع شياه؛ ثم كلما زادت مائة ففيها شاة؛ إجماعا واتفاقا‏.‏ قال ابن عبدالبر‏:‏ وهذه مسألة وهم فيها ابن المنذر، وحكى فيها عن العلماء الخطأ، وخلط وأكثر الغلط‏.‏

لم يذكر البخاري ولا مسلم في صحيحهما تفصيل زكاة البقر‏.‏ وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني ومالك في موطئه وهي مرسلة ومقطوعة وموقوفة‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وقد رواه قوم عن طاوس عن معاذ، إلا أن الذين أرسلوه أثبت من الذين أسندوه‏.‏ وممن أسنده بقية عن المسعودي عن الحكم عن طاوس‏.‏ وقد اختلفوا فيما ينفرد به بقية عن الثقات‏.‏ ورواه الحسن بن عمارة عن الحكم كما رواه بقية عن المسعودي عن الحكم، والحسن مجتمع على ضعفه‏.‏ وقد روي هذا الخبر بإسناد متصل صحيح ثابت من غير رواية طاوس؛ ذكره عبدالرزاق قال‏:‏ أخبرنا معمر والثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل قال‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة، ومن أربعين مسنة، ومن كل حالم دينارا أو عدله معافر؛ ذكره الدارقطني وأبو عيسى الترمذي وصححه‏.‏ قال أبو عمر‏.‏ ولا خلاف بين العلماء أن الزكاة في زكاة البقر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما قال معاذ بن جبل‏:‏ في ثلاثين بقرة تبيع، وفي أربعين مسنة إلا شيء روي عن سعيد بن المسيب وأبي قلابة والزهري وقتادة؛ فإنهم يوجبون في كل خمس من البقر شاة إلى ثلاثين‏.‏ فهذه جملة من تفصيل الزكاة بأصولها وفروعها في كتب الفقه‏.‏ ويأتي ذكر الخلطة في سورة ‏[‏ص‏]‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏صدقة‏}‏ مأخوذ من الصدق؛ إذ هي دليل على صحة إيمانه، وصدق باطنه مع ظاهره، وأنه ليس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات‏.‏ ‏}‏تطهرهم وتزكيهم بها‏}‏ حالين للمخاطب؛ التقدير‏:‏ خذها مطهرا لهم ومزكيا لهم بها‏.‏ ويجوز أن يجعلهما صفتين للصدقة؛ أي صدقة مطهرة لهم مزكية، ويكون فاعل تزكيهم المخاطب، ويعود الضمير الذي في ‏}‏بها‏}‏ على الموصوف المنكر‏.‏ وحكى النحاس ومكي أن ‏}‏تطهرهم‏}‏ من صفة الصدقة ‏}‏وتزكيهم بها‏}‏ حال من الضمير في ‏}‏خذ‏}‏ وهو النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويحتمل أن تكون حالا من الصدقة، وذلك ضعيف لأنها حال من نكرة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ والأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي فإنك تطهرهم وتزكيهم بها، على القطع والاستئناف‏.‏ ويجوز الجزم على جواب الأمر، والمعنى‏:‏ إن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم؛ ومنه قول امرئ القيس‏:‏

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

وقرأ الحسن تطهرهم ‏}‏بسكون الطاء‏}‏ وهو منقول بالهمزة من طهر وأطهرته، مثل ظهر وأظهرته‏.‏

قوله تعالى‏{‏وصل عليهم‏}‏ أصلٌ في فعل كل إمام يأخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق بالبركة‏.‏ روى مسلم عن عبدالله بن أبي أوفى قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال‏:‏ ‏(‏اللهم صل عليهم‏)‏ فأتاه ابن أبي أوفى بصدقته فقال‏:‏ ‏(‏اللهم صل على آل أبي أوفى‏)‏‏.‏ ذهب قوم إلى هذا، وذهب آخرون إلى أن هذا منسوخ بقوله تعالى‏{‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا‏}‏التوبة‏:‏ 84‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ فلا يجوز أن يُصلى على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده خاصة؛ لأنه خص بذلك‏.‏ واستدلوا بقوله تعالى‏{‏لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا‏}‏النور‏:‏ 63‏]‏ الآية‏.‏ وبأن عبدالله بن عباس كان يقول‏:‏ لا يُصلى على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والأول أصح؛ فإن الخطاب ليس مقصورا عليه كما تقدم؛ ويأتي في الآية بعد هذا‏.‏ فيجب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والتأسي به؛ لأنه كان يمتثل قوله‏{‏وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم‏}‏ أي إذا دعوت لهم حين يأتون بصدقاتهم سكن ذلك قلوبهم وفرحوا به‏.‏ وقد روى جابر بن عبدالله قال‏:‏ أتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لامرأتي‏:‏ لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا؛ فقالت‏:‏ يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندنا ولا نسأله شيئا‏!‏ فقالت‏:‏ يا رسول الله؛ صل على زوجي‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلى الله عليك وعلى زوجك‏)‏‏.‏ والصلاة هنا الرحمة والترحم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وحكى أهل اللغة جميعا فيما علمناه أن الصلاة في كلام العرب الدعاء؛ ومنه الصلاة على الجنائز‏.‏ وقرأ حفص وحمزة والكسائي‏{‏إن صلاتك‏}‏ بالتوحيد‏.‏ وجمع الباقون‏.‏ وكذلك الاختلاف في ‏}‏أصلاتك تأمرك‏}‏هود‏:‏ 87‏]‏ وقرئ ‏}‏سكن‏}‏ بسكون الكاف‏.‏ قال قتادة‏:‏ معناه وقار لهم‏.‏ والسكن‏:‏ ما تسكن به النفوس وتطمئن به القلوب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 104 ‏)‏

‏{‏ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم‏}‏

قيل‏:‏ قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين‏:‏ هؤلاء كانوا معنا بالأمس، لا يكلمون ولا يجالسون، فما لهم الآن‏؟‏ وما هذه الخاصة التي خصوا بها دوننا؛ فنزلت‏{‏ألم يعلموا‏}‏ فالضمير في ‏}‏يعلموا‏}‏ عائد إلى الذين لم يتوبوا من المتخلفين‏.‏ قال معناه ابن زيد‏.‏ ويحتمل أن يعود إلى الذين تابوا وربطوا أنفسهم‏.‏ وقوله تعالى‏{‏هو‏}‏ تأكيد لانفراد الله سبحانه وتعالى بهذه الأمور‏.‏ وتحقيق ذلك أنه لو قال‏:‏ إن الله يقبل التوبة لاحتمل أن يكون قبول رسوله قبولا منه؛ فبينت الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبي ولا ملك‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويأخذ الصدقات‏}‏ هذا نص صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثيب عليها وأن الحق له جل وعز، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة، فإن توفي فعامله هو الواسطة بعده، والله عز وجل حي لا يموت‏.‏ وهذا يبين أن قوله سبحانه وتعالى‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ ليس مقصورا على النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ روى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد وتصديق ذلك في كتاب الله ‏}‏وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات‏}‏ ‏}‏ويمحق الله الربا ويربي الصدقات‏}‏‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه - في رواية - فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل‏)‏ الحديث‏.‏ وروي ‏(‏إن الصدقة لتقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف السائل فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله والله يضاعف لمن يشاء‏)‏‏.‏ قال علماؤنا رحمة الله عليهم في تأويل هذه الأحاديث‏:‏ إن هذا كناية عن القبول والجزاء عليها؛ كما كنى بنفسه الكريمة المقدسة عن المريض تعطفا عليه بقوله‏:‏ ‏(‏يا ابن آدم مرضت فلم تعدني‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ وخص اليمين والكف بالذكر إذ كل قابل لشيء إنما يأخذه بكفه وبيمينه أو يوضع له فيه؛ فخرج على ما يعرفونه، والله جل وعز منزه عن الجارحة‏.‏ وقد جاءت اليمين في كلام العرب بغير معنى الجارحة؛ كما قال الشاعر‏:‏

إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

أي هو مؤهل للمجد والشرف، ولم يرد بها يمين الجارحة، لأن المجد معنى فاليمين التي تتلقى به رايته معنى‏.‏ وكذلك اليمين في حق الله تعالى‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن معنى ‏(‏تربو في كف الرحمن‏)‏ عبارة عن كفة الميزان التي توزن فيها الأعمال، فيكون من باب حذف المضاف؛ كأنه قال‏.‏ فتربو كفة ميزان الرحمن‏.‏ وروي عن مالك والثوري وابن المبارك أنهم قالوا في تأويل هذه الأحاديث وما شابهها‏:‏ أمِرّوها بلا كيف؛ قال الترمذي وغيره‏.‏ وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 105 ‏)‏

‏{‏وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقل اعملوا‏}‏ خطاب للجميع‏.‏ ‏}‏فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون‏}‏ أي بإطلاعه إياهم على أعمالكم‏.‏ وفي الخبر‏:‏ ‏(‏لو أن رجلا عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 106 ‏)‏

‏{‏وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم‏}‏

نزلت في الثلاثة الذين تيب عليهم‏:‏ كعب بن مالك وهلال بن أمية من بنى واقف ومرارة بن الربيع؛ وقيل‏:‏ ابن ربعي العمري؛ ذكره المهدوي‏.‏ كانوا قد تخلفوا عن تبوك وكانوا مياسر؛ على ما يأتي من ذكرهم‏.‏ والتقدير‏:‏ ومنهم آخرون مرجون؛ من أرجأته أي أخرته‏.‏ ومنه قيل‏:‏ مرجئة؛ لأنهم أخروا العمل‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏}‏مرجون‏}‏ بغير همزة؛ فقيل‏:‏ هو من أرجيته أي أخرته‏.‏ وقال المبرد‏:‏ لا يقال أرجيته بمعنى أخرته، ولكن يكون من الرجاء‏.‏ ‏}‏إما يعذبهم وإما يتوب عليهم‏}‏ ‏}‏إما‏}‏ في العربية لأحد أمرين، والله عز وجل عالم بمصير الأشياء، ولكن المخاطبة للعباد على ما يعرفون؛ أي ليكن أمرهم عندكم على الرجاء لأنه ليس للعباد أكثر من هذا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 107 ‏)‏

‏{‏والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون‏}‏

قوله تعالى‏{‏والذين اتخذوا مسجدا‏}‏ معطوف، أي ومنهم الذين اتخذوا مسجدا، عطف جملة على جملة‏.‏ ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء والخبر محذوف كأنهم ‏}‏يعذبون‏}‏ أو نحوه‏.‏ ومن قرأ ‏}‏الذين‏}‏ بغير واو وهي قراءة المدنيين فهي عنده رفع بالابتداء، والخبر ‏}‏لا تقم‏}‏ التقدير‏:‏ الذين اتخذوا مسجدا لا تقم فيه أبدا؛ أي لا تقم في مسجدهم؛ قاله الكسائي‏.‏ وقال النحاس‏:‏ يكون خبر الابتداء ‏}‏لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم‏}‏التوبة‏:‏ 110‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ الخبر ‏}‏يعذبون‏}‏ كما تقدم‏.‏ ونزلت الآية فيما روي في أبو عامر الراهب؛ لأنه كان خرج إلى قيصر وتنصر ووعدهم قيصر أنه سيأتيهم، فبنوا مسجد الضرار يرصدون مجيئه فيه؛ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم، وقد تقدمت قصته في الأعراف وقال أهل التفسير‏:‏ إن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء وبعثوا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه؛ فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا‏:‏ نبني مسجدا ونبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا فيصلي لنا كما صلى في مسجد إخواننا، ويصلي فيه أبو عامر إذا قدم من الشام؛ فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا‏:‏ يا رسول الله، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة، والعلة والليلة المطيرة، ونحب أن تصلي لنا فيه وتدعو بالبركة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏إني على سفر وحال شغل فلو قدمنا لأتيناكم وصلينا لكم فيه‏)‏ فلما أنصرف النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك أتوه وقد فرغوا منه وصلوا فيه الجمعة والسبت والأحد، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن بخبر مسجد الضرار؛ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا قاتل حمزة، فقال‏:‏ ‏(‏انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه‏)‏ فخرجوا مسرعين، وأخرج مالك بن الدخشم من منزله شعلة نار، ونهضوا فأحرقوا المسجد وهدموه، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا‏:‏ خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الضرار، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعباد بن الأزعر، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف‏.‏ وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد ابنا جارية، ونبتل بن الحارث، وبحزج، وبجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت، وثعلبة بن حاطب مذكور فيهم‏.‏ قال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ وفيه نظر؛ لأنه شهد بدرا‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ سأل عمر بن الخطاب رجلا منهم بماذا أعنت في هذا المسجد‏؟‏ فقال‏:‏ أعنت فيه بسارية‏.‏ فقال‏:‏ أبشر بها سارية في عنقك من نار جهنم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ضرارا‏}‏ مصدر مفعول من أجله‏.‏ ‏}‏وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا‏}‏ عطف كله‏.‏ وقال أهل التأويل‏:‏ ضرارا بالمسجد، وليس للمسجد ضرار، إنما هو لأهله‏.‏ وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏لا ضرر ولا ضرار من ضار ضار الله به ومن شاق الله عليه‏)‏‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ الضرر‏:‏ الذي لك به منفعة وعلى جارك فيه مضرة‏.‏ والضرار‏:‏ الذي ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه المضرة‏.‏ وقد قيل‏:‏ هما بمعنى واحد، تكلم بهما جميعا على جهة التأكيد‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ لا يجوز أن يبني مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه؛ والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغرا، إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيبنى حينئذ‏.‏ وكذلك قالوا‏.‏ لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه‏.‏ وقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه‏.‏ وأسند الطبري عن شقيق أنه جاء ليصلي في مسجد بني غاضرة فوجد الصلاة قد فاتته، فقيل له‏:‏ إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد؛ فقال‏:‏ لا أحب أن أصلي فيه؛ لأنه بني على ضرار‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه‏.‏ وقال النقاش‏:‏ يلزم من هذا ألا يصلي في كنيسة ونحوها؛ لأنها بنيت على شر‏.‏

قلت‏:‏ هذا لا يلزم؛ لأن الكنيسة لم يقصد ببنائها الضرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شر، وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعا يتعبدون فيه بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا‏.‏ وقد أجمع العلماء على أن من صلى في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر أن صلاته ماضية جائزة‏.‏ وقد ذكر البخاري أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل‏.‏ وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم‏.‏

قال العلماء‏:‏ إن من كان إماما لظالم لا يصلي وراءه إلا أن يظهر عذره أو يتوب فإن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن جارية أن يصلي بهم في مسجدهم؛ فقال‏:‏ لا ولا نعمة عين أليس بإمام مسجد الضرار فقال له مجمع‏:‏ يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي فوالله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما قد أضمروا عليه ولو علمت ما صليت بهم فيه كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا قد عاشوا على جاهليتهم وكانوا لا يقرؤون من القرآن شيئا فصليت ولا أحسب ما صنعت إثما ولا أعلم بما في أنفسهم فعذره عمر رضي الله عنهما وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء‏.‏

قال علماؤنا رحمة الله عليهم‏:‏ وإذا كان المسجد الذي يتخذ للعبادة وحض الشرع على بنائه فقال‏:‏ ‏(‏من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة‏)‏ يهدم وينزع إذا كان فيه ضرر بغيره، فما ظنك بسواه بل هو أحرى أن يزال ويهدم حتى لا يدخل ضرر على الأقدم‏.‏ وذلك كمن بنى فرنا أو رحى أو حفر بئرا أو غير ذلك مما يدخل به الضرر على الغير‏.‏ وضابط هذا الباب‏:‏ أن من أدخل على أخيه ضررا منع‏.‏ فإن أدخل على أخيه ضررا بفعل ما كان له فعله في ماله فأضر ذلك بجاره أو غير جاره نظر إلى ذلك الفعل؛ فإن كان تركه أكبر ضررا من الضرر الداخل على الفاعل قطع أكبر الضررين وأعظمهما حرمة في الأصول‏.‏ مثال ذلك‏:‏ رجل فتح كوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهل، ومن شأن النساء في بيوتهن إلقاء بعض ثيابهن والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أن الإطلاع على العورات محرم وقد ورد النهي فيه فلحرمه الاطلاع على العورات رأى العلماء أن يغلقوا على فاتح الباب والكوة ما فتح مما له فيه منفعة وراحة وفي غلقه عليه ضرر لأنهم قصدوا إلى قطع أعظم الضررين، إذ لم يكن بد من قطع أحدهما وهكذا الحكم في هذا الباب، خلافا للشافعي ومن قال بقوله‏.‏ قال أصحاب الشافعي‏:‏ لو حفر رجل في ملكه بئرا وحفر آخر في ملكه بئرا يسرق منها ماء البئر الأولة جاز؛ لأن كل واحد منهما حفر في ملكه فلا يمنع من ذلك‏.‏ ومثله عندهم‏:‏ لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفا يفسده عليه لم يكن له منعه؛ لأنه تصرف في ملكه‏.‏ والقرآن والسنة يردان هذا القول‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

ومن هذا الباب وجه آخر من الضرر منع العلماء منه، كدخان الفرن والحمام وغبار الأندر والدود المتولد من الزبل المبسوط في الرحاب، وما كان مثل هذا فإنه يقطع منه ما بان ضرره وخشي تماديه‏.‏ وأما ما كان ساعة خفيفة مثل نفض الثياب والحصر عند الأبواب؛ فإن هذا مما لا غنى بالناس عنه، وليس مما يستحق به شيء؛ فنفي الضرر في منع مثل هذا أعظم وأكبر من الصبر على ذلك ساعة خفيفة‏.‏ وللجار على جاره في أدب السنة أن يصبر على أذاه على ما يقدر كما عليه ألا يؤذيه وأن يحسن إليه‏.‏

ومما يدخل في هذا الباب مسألة ذكرها إسماعيل بن أبي أويس عن مالك أنه سئل عن امرأة عرض لها، يعني مسا من الجن، فكانت إذا أصابها زوجها وأجنبت أودنا منها يشتد ذلك بها‏.‏ فقال مالك‏:‏ لا أرى أن يقربها، وأرى للسلطان أن يحول بينه وبينها‏.‏

قوله تعالى‏{‏وكفرا‏}‏ لما كان اعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم كفروا بهذا الاعتقاد؛ قاله ابن العربي‏.‏ وقيل‏{‏وكفرا‏}‏ أي بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به؛ قاله القشيري وغيره‏.‏

قوله تعالى‏{‏وتفريقا بين المؤمنين‏}‏ أي يفرقون به جماعتهم ليتخلف أقوام عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا يدلك على أن المقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة، وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة حتى يقع الأنس بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد‏.‏

تفطن مالك رحمه الله من هذه الآية فقال‏:‏ لا تصلي جماعتان في مسجد واحد بإمامين؛ خلافا لسائر العلماء‏.‏ وقد روي عن الشافعي المنع؛ حيث كان تشتيتا للكلمة وإبطالا لهذه الحكمة وذريعة إلى أن نقول‏:‏ من يريد الانفراد عن الجماعة كان له عذر فيقيم جماعته ويقدم إمامته فيقع الخلاف ويبطل النظام، وخفي ذلك عليهم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا كان شأنه معهم، وهو أثبت قدما منهم في الحكمة وأعلم بمقاطع الشريعة‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإرصادا لمن حارب الله ورسوله‏}‏ يعني أبا عامر الراهب؛ وسمي بذلك لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم فمات كافرا بقنسرين بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم؛ فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين‏.‏ فلما انهزمت هوازن خرج إلى الورم يستنصر، وأرسل إلى المنافقين وقال‏:‏ استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجند من الروم لأخرج محمدا من المدينة؛ فبنوا مسجد الضرار‏.‏ وأبو عامر هذا هو والد حنظلة غسيل الملائكة‏.‏ والإرصاد‏:‏ الانتظار؛ تقول‏:‏ أرصدت كذا إذا أعددته مرتقبا له به‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ يقال رصدته وأرصدته في الخير، وأرصدت له في الشر‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ لا يقال إلا أرصدت، ومعناه ارتقبت‏.‏ وقوله تعالى‏{‏من قبل‏}‏ أي من قبل بناء مسجد الضرار‏.‏ ‏}‏وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى‏}‏ أي ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسني، وهي الرفق بالمسلمين كما ذكروا لذي العلة والحاجة‏.‏ وهذا يدل على أن الأفعال تختلف بالمقصود والإرادات؛ ولذلك قال‏{‏وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى‏}‏‏.‏ ‏}‏والله يشهد إنهم لكاذبون‏}‏ أي يعلم خبث ضمائرهم وكذبهم فيما يحلفون عليه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 108 ‏)‏

‏{‏لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏لا تقم فيه أبدا‏}‏ يعني مسجد الضرار؛ أي لا تقم فيه للصلاة‏.‏ وقد يعبر عن الصلاة بالقيام؛ يقال‏:‏ فلان يقوم الليل أي يصلي؛ ومنه الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏‏.‏ أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏.‏‏.‏‏.‏، فذكره‏.‏ وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية كان لا يمر بالطريق التي فيها المسجد، وأمر بموضعه أن يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف والأقذار والقمامات‏.‏

قوله تعالى‏{‏أبدا‏}‏ ‏}‏أبدا‏}‏ ظرف زمان‏.‏ وظرف الزمان على قسمين‏:‏ ظرف مقدر كاليوم، وظرف مبهم كالحين والوقت؛ والأبد من هذا القسم، وكذلك الدهر‏.‏

وتنشأ هنا مسألة أصولية، وهي أن ‏}‏أبدا‏}‏ وإن كانت ظرفا مبهما لا عموم فيه ولكنه إذا اتصل بلا النافية أفاد العموم، فلو قال‏:‏ لا تقم، لكفي في الانكفاف المطلق‏.‏ فإذا قال‏{‏أبدا‏}‏ فكأنه قال في وقت من الأوقات ولا في حين من الأحيان‏.‏ فأما النكرة في الإثبات إذا كانت خبرا عن واقع لم تعم، وقد فهم ذلك أهل اللسان وقضى به فقهاء الإسلام فقالوا‏:‏ لو قال رجل لامرأته أنت طالق أبدا طلقت طلقة واحدة‏.‏

قوله تعالى‏{‏لمسجد أسس على التقوى‏}‏ أي بنيت جدره ورفعت قواعده‏.‏ والأسس أصل البناء؛ وكذلك الأساس‏.‏ والأسس مقصور منه‏.‏ وجمع الأس إساس؛ مثل عس وعساس‏.‏ وجمع الأساس أسس؛ مثل قذال وقذل‏.‏ وجمع الأسس أساس؛ مثل سبب وأسباب‏.‏ وقد أسست البناء تأسيسا‏.‏ وقولهم‏:‏ كان ذلك على أس الدهر، وأس الدهر، وإس الدهر؛ ثلاث لغات؛ أي على قدم الدهر ووجه الدهر‏.‏ واللام في قوله ‏}‏لمسجد‏}‏ لام قسم‏.‏ وقيل لام الابتداء؛ كما تقول‏:‏ لزيد أحسن الناس فعلا؛ وهي مقتضية تأكيدا‏.‏ ‏}‏أسس على التقوى‏}‏ نعت لمسجد‏.‏ ‏}‏أحق‏}‏ خبر الابتداء الذي هو ‏}‏لمسجد‏}‏ ومعنى التقوى هنا الخصال التي تتقى بها العقوبة، وهي فعلى من وقيت، وقد تقدم‏.‏

واختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى؛ فقالت طائفة‏:‏ هو مسجد قباء؛ يروى عن ابن عباس والضحاك والحسن‏.‏ وتعلقوا بقول‏{‏من أول يوم‏}‏، ومسجد قباء كان أسس بالمدينة أول يوم؛ فإنه بني قبل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ قاله ابن عمر وابن المسيب، ومالك فيما رواه عنه ابن وهب وأشهب وابن القاسم‏.‏ وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري‏:‏ قال تماري رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم؛ فقال رجل هو مسجد قباء، وقال آخر هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هو مسجدي هذا‏)‏‏.‏ قال حديث صحيح‏.‏ والقول الأول أليق بالقصة؛ لقوله‏{‏فيه‏}‏ وضمير الظرف يقتضي الرجال المتطهرين؛ فهو مسجد قباء‏.‏ والدليل على ذلك حديث أبي هريرة قال‏:‏ نزلت هذه الآية في أهل قباء ‏}‏فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين‏}‏ قال‏:‏ كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية‏.‏ قال الشعبي‏:‏ هم أهل مسجد قباء، أنزل الله فيهم هذا‏.‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء‏:‏ ‏(‏إن الله سبحانه قد أحسن عليكم الثناء في التطهر فما تصنعون‏)‏ ‏؟‏ قالوا‏:‏ إنا نغسل أثر الغائط والبول بالماء؛ رواه أبو داود‏.‏ وروى الدارقطني عن طلحة بن نافع قال‏:‏ حدثني أبو أيوب وجابر بن عبدالله وأنس بن مالك الأنصاريون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ‏}‏فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين‏}‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم هذا‏)‏ ‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فهل مع ذلك من غيره‏)‏ ‏؟‏ فقالوا‏:‏ لا غير، إن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏هو ذاك فعليكموه‏)‏‏.‏ وهذا الحديث يقتضي أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء، إلا أن حديث أبي سعيد الخدري نص فيه النبي صلى الله عليه وسلم على أنه مسجده فلا نظر معه‏.‏ وقد روى أبو كريب قال‏:‏ حدثنا أبو أسامة قال حدثنا صالح بن حيان قال حدثنا عبدالله بن بريدة في قوله عز وجل‏{‏في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه‏}‏النور‏:‏ 36‏]‏ قال‏:‏ إنما هي أربعة مساجد لم يبنهن إلا نبي‏:‏ الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وبيت أريحا بيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام، ومسجد المدينة ومسجد قباء اللذين أسسا على التقوى، بناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏من أول يوم‏}‏ ‏}‏من‏}‏ عند النحويين مقابلة منذ؛ فمنذ في الزمان بمنزلة من في المكان‏.‏ فقيل‏:‏ إن معناه هنا معنى منذ؛ والتقدير‏:‏ منذ أول يوم ابتدئ بنيانه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى من تأسيس أول الأيام، فدخلت على مصدر الفعل الذي هو أسس؛ كما قال‏:‏

لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حجج ومن دهر

أي من مر حجج ومن مر دهر‏.‏ وإنما دعا إلى هذا أن من أصول النحويين أن ‏}‏من‏}‏ لا يجر بها الأزمان، وإنما تجر الأزمان بمنذ، تقول ما رأيته منذ شهر أوسنة أو يوم، ولا تقول‏:‏ من شهر ولا من سنة ولا من يوم‏.‏ فإذا وقعت في الكلام وهي يليها زمن فيقدر مضمر يليق أن يجر بمن؛ كما ذكرنا في تقدير البيت‏.‏ ابن عطية‏.‏ ويحسن عندي أن يستغنى في هذه الآية عن تقدير، وأن تكون ‏}‏من‏}‏ تجر لفظة ‏}‏أول‏}‏ لأنها بمعنى البداءة؛ كأنه قال‏:‏ من مبتدأ الأيام‏.‏

قوله تعالى‏{‏أحق أن تقوم فيه‏}‏ أي بأن تقوم؛ فهو في موضع نصب‏.‏ و‏}‏أحق‏}‏ هو أفعل من الحق، وأفعل لا يدخل إلا بين شيئين مشتركين، لأحدهما في المعنى الذي اشتركا فيه مزية‏.‏ على الآخر؛ فمسجد الضرار وإن كان باطلا لاحق فيه، فقد اشتركا في الحق من جهة اعتقاد بانيه، أو من جهة اعتقاد من كان يظن أن القيام فيه جائز للمسجدية؛ لكن أحد الاعتقادين باطل باطنا عند الله، والآخر حق باطنا وظاهرا؛ ومثل هذا قوله تعالى‏{‏أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا‏}‏الفرقان‏:‏ 24‏]‏ ومعلوم أن الخيرية من النار مبعودة، ولكنه جرى على اعتقاد كل فرقة أنها على خير وأن مصيرها إليه خير؛ إذ كل حزب بما لديهم فرحون‏.‏ وليس هذا من قبيل‏:‏ العسل أحلى من الخل؛ فإن العسل وإن كان حلوا فكل شيء ملائم فهو حلو؛ ألا ترى أن من الناس من يقدم الخل على العسل مفردا بمفرد ومضافا إلى غيره بمضاف‏.‏

قوله تعالى‏{‏فيه‏}‏ من قال‏:‏ إن المسجد يراد به مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فالهاء في ‏}‏أحق أن تقوم فيه‏}‏ عائد إليه‏.‏ و‏}‏فيه رجال‏}‏ له أيضا‏.‏ ومن قال‏:‏ إنه مسجد قباء، فالضمير في ‏}‏فيه‏}‏ عائد إليه على الخلاف المتقدم‏.‏

أثنى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على من أحب الطهارة وآثر النظافة، وهي مروءة آدمية ووظيفة شرعية؛ وفى الترمذي عن عائشة رضوان الله عليها أنها قالت‏:‏‏(‏مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم‏)‏‏.‏ قال‏:‏ حديث صحيح‏.‏ وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏كان يحمل الماء معه في الاستنجاء؛ فكان يستعمل الحجارة تخفيفا‏)‏ الماء تطهيرا‏.‏ ابن العربي‏:‏ وقد كان علماء القيروان يتخذون في متوضآتهم أحجارا في تراب ينقون بها ثم يستنجون بالماء‏.‏

اللازم من نجاسة المخرج التخفيف، وفي نجاسة سائر البدن والثوب التطهير‏.‏ وذلك رخصة من الله لعباده في حالتي وجود الماء وعدمه؛ وبه قال عامة العلماء‏.‏ وشذ ابن حبيب فقال‏:‏ لا يستجمر بالأحجار إلا عند عدم الماء‏.‏ والأخبار الثابتة في الاستجمار بالأحجار مع وجود الماء ترده‏.‏

واختلف العلماء من هذا الباب في إزالة النجاسة من الأبدان والثياب، بعد إجماعهم على التجاوز والعفو عن دم البراغيث ما لم يتفاحش على ثلاثة أقوال‏:‏ الأول‏:‏ أنه واجب فرض، ولا تجوز صلاة من صلى بثوب نجس عالما كان بذلك أو ساهيا؛ روي عن ابن عباس والحسن وابن سيرين، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور، ورواه ابن وهب عن مالك، وهو قول أبي الفرج المالكي والطبري؛ إلا أن الطبري قال‏:‏ إن كانت النجاسة قدر الدرهم أعاد الصلاة‏.‏ وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف في مراعاة قدر الدرهم قياسا على حلقة الدبر‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إزالة النجاسة واجبة بالسنة من الثياب والأبدان، وجوب سنة وليس بفرض‏.‏ قالوا‏:‏ ومن صلى بثوب نجس أعاد الصلاة في الوقت فإن خرج الوقت فلا شيء عليه؛ هذا قول مالك وأصحابه إلا أبا الفرج، ورواية ابن وهب عنه‏.‏ وقال مالك في يسير الدم‏:‏ لا تعاد منه الصلاة في الوقت ولا بعده، وتعاد من يسير البول والغائط؛ ونحو هذا كله من مذهب مالك قول الليث‏.‏ وقال ابن القاسم عنه‏:‏ تجب إزالتها في حالة الذكر دون النسيان؛ وهي من مفرداته‏.‏ والقول الأول أصح إن شاء الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال‏:‏‏(‏إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏ الحديث، خرجه البخاري ومسلم، وحسبك‏.‏ وسيأتي في سورة ‏[‏سبحان‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ ولا يعذب الإنسان إلا على ترك واجب؛ وهذا ظاهر‏.‏ وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أكثر عذاب القبر من البول‏)‏‏.‏ احتج الآخرون‏(‏بخلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه في الصلاة لما أعلمه جبريل عليه السلام أن فيهما قذرا وأذى‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ خرجه أبو داود وغيره من حديث أبي سعيد الخدري، وسيأتي في سورة ‏[‏طه‏]‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ قالوا‏:‏ ولما لم يعد ما صلى دل على أن إزالتها سنة وصلاته صحيحة، ويعيد ما دام في الوقت طلبا للكمال‏.‏ والله أعلم‏.‏

قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ وأما الفرق بين القليل والكثير بقدر الدرهم البغلي؛ يعني كبار الدراهم التي هي على قدر استدارة الدينار قياسا على المسربة ففاسد من وجهين؛ أحدهما‏:‏ أن المقدرات لا تثبت قياسا فلا يقبل هذا التقدير‏.‏ الثاني‏:‏ أن هذا الذي خفف عنه في المسربة رخصة للضرورة، والحاجة والرخص لا يقاس عليها؛ لأنها خارجة عن القياس فلا ترد إليه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 109 ‏)‏

‏{‏أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏أفمن أسس‏}‏ أي أصل، وهو استفهام معناه التقرير‏.‏ و‏}‏من‏}‏ بمعنى الذي، وهي في موضع رفع بالابتداء، وخبره ‏}‏خير‏}‏‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وجماعة ‏}‏أسس بنيانه‏}‏ على بناء أسس للمفعول ورفع بنيان فيهما‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وجماعة ‏}‏أسس بنيانه‏}‏ على بناء الفعل للفاعل ونصب بنيانه فيهما‏.‏ وهي اختيار أبي عبيد لكثرة من قرأ به، وأن الفاعل سمي فيه‏.‏ وقرأ نصر بن عاصم بن علي ‏}‏أفمن أسس‏}‏ بالرفع ‏}‏بنيانه‏}‏ بالخفض‏.‏ وعنه أيضا ‏}‏أساس بنيانه‏}‏ وعنه أيضا ‏}‏أس بنيانه‏}‏ بالخفض‏.‏ والمراد أصول البناء كما تقدم‏.‏ وحكى أبو حاتم قراءة سادسة وهي ‏}‏أفمن أساس بنيانه‏}‏ قال النحاس‏:‏ وهذا جمع أس؛ كما يقال‏:‏ خف وأخفاف، والكثير ‏}‏إساس‏}‏ مثل خفاف‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أصبح الملك ثابت الأساس في البهاليل من بني العباس

قوله تعالى‏{‏على تقوى من الله‏}‏ قراءة عيسى بن عمر - فيما حكى سيبويه - بالتنوين، والألف ألف إلحاق كألف تترى فيما نون، وقال الشاعر‏:‏

يستن في علقي وفي مكور

وأنكر سيبويه التنوين، وقال‏:‏ لا أدري ما وجهه‏.‏ ‏}‏على شفا‏}‏ الشفا‏:‏ الحرف والحد، وقد مضى في ‏(‏آل عمران‏)‏ مستوفى‏.‏ و‏}‏جرف‏}‏ قرئ برفع الراء، وأبو بكر وحمزة بإسكانها؛ مثل الشغل والشغل، والرسل والرسل، يعني جرفا ليس له أصل‏.‏ والجرف‏:‏ ما يتجرف بالسيول من الأودية، وهو جوانبه التي تنحفر بالماء، وأصله من الجرف والاجتراف؛ وهو اقتلاع الشيء من أصله‏.‏ ‏}‏هار‏}‏ ساقط؛ يقال‏.‏ تهور البناء إذا سقط، وأصله هائر، فهو من المقلوب يقلب وتؤخر ياؤها، فيقال‏:‏ هار وهائر، قال الزجاج‏.‏ ومثله لاث الشيء به إذا دار؛ فهو لاث أي لائث‏.‏ وكما قالوا‏:‏ شاكي السلاح وشائك السلاح‏.‏ قال العجاج‏:‏

لاث به الأشاء والعبري

الأشاء النخل، والعبري السدر الذي على شاطئ الأنهار‏.‏ ومعنى لاث به مطيف به‏.‏ وزعم أبو حاتم أن الأصل فيه هاور، ثم يقال هائر مثل صائم، ثم يقلب فيقال هار‏.‏ وزعم الكسائي أنه من ذوات الواو ومن ذوات الياء، وأنه يقال‏:‏ تهور وتهير‏.‏

قلت‏:‏ ولهذا يمال ومفتح‏.‏

قوله تعالى‏{‏فانهار به في نار جهنم‏}‏ فاعل انهار الجرف؛ كأنه قال‏:‏ فانهار الجرف بالبنيان في النار؛ لأن الجرف مذكر‏.‏ ويجوز أن يكون الضمير في به يعود على ‏}‏من‏}‏ وهو الباني؛ والتقدير‏:‏ فانهار من أسس بنيانه على غير تقوى‏.‏ وهذه الآية ضرب مثل لهم، أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق‏.‏ وبين أن بناء الكافر كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها‏.‏ والشفا‏:‏ الشفير‏.‏ وأشفى على كذا أي دنا منه‏.‏

في هذه الآية دليل على أن كل شيء ابتدئ بنية تقوى الله تعالى والقصد لوجهه الكريم فهو الذي يبقى ويسعد به صاحبه ويصعد إلى الله ويرفع إليه، ويخبر عنه بقوله‏{‏ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏}‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏ على أحد الوجهين‏.‏ ويخبر عنه أيضا بقوله‏{‏والباقيات الصالحات‏}‏الكهف‏:‏ 46‏]‏ على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

واختلف العلماء في قوله تعالى‏{‏فانهار به في نار جهنم‏}‏ هل ذلك حقيقة أو مجاز على قولين؛ ‏[‏الأول‏]‏ أن ذلك حقيقة وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أَرسل إليه فهُدم رئي الدخان يخرج منه؛ من رواية سعيد بن جبير‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة‏.‏ وذكر أهل التفسير أنه كان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان‏.‏ وروى عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ جهنم في الأرض، ثم تلا ‏}‏فانهار به في نار جهنم‏}‏‏.‏ وقال جابر بن عبدالله‏:‏ أنا رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏[‏والثاني‏]‏ أن ذلك مجاز، والمعنى‏:‏ صار البناء في نار جهنم، فكأنه انهار إليه وهوى فيه؛ وهذا كقوله تعالى‏{‏فأمه هاوية‏}‏القارعة‏:‏ 9‏]‏‏.‏ والظاهر الأول، إذ لا إحالة في ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 110 ‏)‏

‏{‏لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏لا يزال بنيانهم الذي بنوا‏}‏ يعني مسجد الضرار‏.‏ ‏}‏ريبة‏}‏ أي شكا في قلوبهم ونفاقا؛ قاله ابن عباس وقتادة والضحاك‏.‏ وقال النابغة‏:‏

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب

وقال الكلبي‏:‏ حسرة وندامة؛ لأنهم ندموا على بنيانه‏.‏ وقال السدي وحبيب والمبرد‏{‏ريبة‏}‏ أي حزازة وغيظا‏.‏ ‏}‏إلا أن تقطع قلوبهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي تنصدع قلوبهم فيموتوا؛ كقوله‏{‏لقطعنا منه الوتين‏}‏الحاقة‏:‏ 46‏]‏ لأن الحياة تنقطع بانقطاع الوتين؛ وقاله قتادة والضحاك ومجاهد‏.‏ وقال سفيان‏:‏ إلا أن يتوبوا‏.‏ عكرمة‏:‏ إلا أن تقطع قلوبهم في قبورهم، وكان أصحاب عبدالله بن مسعود يقرؤونها‏{‏ريبة في قلوبهم ولو تقطعت قلوبهم‏}‏‏.‏ وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم ‏}‏إلى أن تقطع‏}‏ على الغاية، أي لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبينوا‏.‏ واختلف القراء في قوله ‏}‏تقطع‏}‏ فالجمهور ‏}‏تقطع‏}‏ بضم التاء وفتح القاف وشد الطاء على الفعل المجهول‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب كذلك إلا أنهم فتحوا التاء‏.‏ وروي عن يعقوب وأبي عبدالرحمن ‏}‏تقطع‏}‏ على الفعل المجهول مخفف القاف‏.‏ وروي عن شبل وابن كثير ‏}‏تقطع‏}‏ خفيفة القاف ‏}‏قلوبهم‏}‏ نصبا، أي أنت تفعل ذلك بهم‏.‏ وقد ذكرنا قراءة أصحاب عبدالله‏.‏ ‏}‏والله عليم حكيم‏}‏ تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 111 ‏)‏

‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم‏}‏ قيل‏:‏ هذا تمثيل؛ مثل قوله تعالى‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏البقرة‏:‏ 16‏]‏‏.‏ ونزلت الآية في البيعة الثانية، وهي بيعة العقبة الكبرى، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين، وكان أصغرهم سنا عقبة بن عمرو؛ وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة، فقال عبدالله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اشترط لربك ولنفسك ما شئت؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فإذا فعلنا ذلك فما لنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الجنة‏)‏ قالوا‏:‏ ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل؛ فنزلت‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة‏}‏ الآية‏.‏ ثم هي بعد ذلك عامة في كل مجاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة‏.‏

هذه الآية دليل على جواز معاملة السيد مع عبده، وإن كان الكل للسيد لكن إذا ملكه عامله فيما جعل إليه‏.‏ وجائز بين السيد وعبده ما لا يجوز بينه وبين غيره؛ لأن ماله له وله انتزاعه‏.‏

أصل الشراء بين الخلق أن يعوضوا عما خرج من أيديهم ما كان أنفع لهم أو مثل ما خرج عنهم في النفع؛ فاشترى الله سبحانه من العباد إتلاف أنفسهم وأموالهم في طاعته، وإهلاكها في مرضاته، وأعطاهم سبحانه الجنة عوضا عنها إذا فعلوا ذلك‏.‏ وهو عوض عظيم لا يدانيه المعوض ولا يقاس به، فأجرى ذلك على مجاز ما يتعارفونه في البيع والشراء فمن العبد تسليم النفس والمال، ومن الله الثواب والنوال فسمي هذا شراء‏.‏ وروى الحسن قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن فوق كل بِرٍّ بِرٌّ حتى يبذل العبد دمه فإذا فعل ذلك فلا بر فوق ذلك‏)‏‏.‏ وقال الشاعر في معنى البر‏:‏

الجود بالماء جود فيه مكرمة والجود بالنفس أقصى غاية الجود

وأنشد الأصمعي لجعفر الصادق رضي الله عنه‏:‏

أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن

بها تشتري الجنات إن أنا بعتها بشيء سواها إن ذلكم غبن

لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن

قال الحسن‏:‏ ومر أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم‏}‏ فقال‏:‏ كلام من هذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏كلام الله‏)‏ قال‏:‏ بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله‏.‏ فخرج إلى الغزو واستشهد‏.‏

قال العلماء‏:‏ كما اشترى من المؤمنين البالغين المكلفين كذلك اشترى من الأطفال فآلمهم وأسقمهم؛ لما في ذلك من المصلحة وما فيه من الاعتبار للبالغين، فإنهم لا يكونون عند شيء أكثر صلاحا وأقل فسادا منهم عند ألم الأطفال، وما يحصل للوالدين الكافلين من الثواب فيما ينالهم من الهم ويتعلق بهم من التربية والكفالة‏.‏ ثم هو عز وجل يعوض هؤلاء الأطفال عوضا إذا صاروا إليه‏.‏ ونظير هذا في الشاهد أنك تكتري الأجير ليبني وينقل التراب وفي كل ذلك له ألم وأذى، ولكن ذلك جائز لما في عمله من المصلحة ولما يصل إليه من الأجر‏.‏

قوله تعالى‏{‏يقاتلون في سبيل الله‏}‏ بيان لما يقاتل له وعليه؛ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏فيقتلون ويقتلون‏}‏ قرأ النخعي والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل؛ ومنه قول امرئ القيس‏:‏

فإن تقتلونا نقتلكم‏.‏‏.‏‏.‏

أي إن تقتلوا بعضنا يقتلكم بعضنا‏.‏ وقرأ الباقون بتقديم الفاعل على المفعول‏.‏

قوله تعالى‏{‏وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن‏}‏ إخبار من الله تعالى أن هذا كان في هذه الكتب، وأن الجهاد ومقاومة الأعداء أصله من عهد موسى عليه السلام‏.‏ و‏}‏وعدا‏}‏ و‏}‏حقا‏}‏ مصدران موكدان‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن أوفى بعهده من الله‏}‏ أي لا أحد أو في بعهده من الله‏.‏ وهو يتضمن الوفاء بالوعد والوعيد، ولا يتضمن وفاء البارئ بالكل؛ فأما وعده فللجميع، وأما وعيده فمخصوص ببعض المذنبين وببعض الذنوب وفي بعض الأحوال‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى مستوفى‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به‏}‏ أي أظهروا السرور بذلك‏.‏ والبشارة إظهار السرور في البشرة‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ والله ما على الأرض مؤمن إلا يدخل في هذه البيعة‏.‏ ‏}‏وذلك هو الفوز العظيم‏}‏ أي الظفر بالجنة والخلود فيها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 112 ‏)‏

‏{‏التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏التائبون العابدون‏}‏ التائبون هم الراجعون عن الحالة المذمومة في معصية الله إلى الحالة المحمودة في طاعة الله‏.‏ والتائب هو الراجع‏.‏ والراجع إلى الطاعة هو أفضل من الراجع عن المعصية لجمعه بين الأمرين‏.‏ ‏}‏العابدون‏}‏ أي المطيعون الذين قصدوا بطاعتهم الله سبحانه‏.‏ ‏}‏الحامدون‏}‏ أي الراضون بقضائه المصرفون نعمته في طاعته، الذين يحمدون الله على كل حال‏.‏ ‏}‏السائحون‏}‏ الصائمون؛ عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما‏.‏ ومنه قوله تعالى‏{‏عابدات سائحات‏}‏التحريم‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ إنما قيل للصائم سائح لأنه يترك اللذات كلها من المطعم والمشرب والمنكح‏.‏ وقال أبو طالب‏:‏

وبالسائحين لا يذوقون قطرة لربهم والذاكرات العوامل

وقال آخر‏:‏

برا يصلي ليله ونهاره يظل كثير الذكر لله سائحا

وروي عن عائشة أنها قالت‏:‏ سياحة هذه الأمة الصيام؛ أسنده الطبري‏.‏ ورواه أبو هريرة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏سياحة أمتي الصيام‏)‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومذهب الحسن أنهم الذين يصومون القرض‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنهم الذين يديمون الصيام‏.‏ وقال عطاء‏:‏ السائحون المجاهدون‏.‏ وروى أبو أمامة أن رجلا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال‏:‏ ‏(‏إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله‏)‏‏.‏ صححه أبو محمد عبدالحق‏.‏ وقيل‏:‏ السائحون المهاجرون قاله عبدالرحمن بن زيد‏.‏ وقيل‏:‏ هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم؛ قال عكرمة‏.‏ وقيل‏:‏ هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته وما خلق من العبر والعلامات الدالة على توحيده وتعظيمه حكاه النقاش وحكي أن بعض العباد أخذ القدح ليتوضأ لصلاة الليل فأدخل أصبعه في أذن القدح وقعد يتفكر حتى طلع الفجر فقيل له في ذلك فقال‏:‏ أدخلت أصبعي في أذن القدح فتذكرت قول الله تعالى‏{‏إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل‏}‏غافر‏:‏ 71‏]‏ وذكرت كيف أتلقى الغل وبقيت ليلي في ذلك أجمع‏.‏

قلت‏:‏ لفظ ‏}‏س ي ح‏}‏ يدل على صحة هذه الأقوال فإن السياحة أصلها الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء؛ فالصائم مستمر على الطاعة في ترك ما يتركه من الطعام وغيره فهو بمنزلة السائح‏.‏ والمتفكرون تجول قلوبهم فيما ذكروا‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغونني صلاة أمتي‏)‏ ويروى ‏}‏صياحين‏}‏ بالصاد، من الصياح‏.‏ ‏}‏الراكعون الساجدون‏}‏ يعني في الصلاة المكتوبة وغيرها‏.‏ ‏}‏الآمرون بالمعروف‏}‏ أي بالسنة، وقيل‏:‏ بالإيمان‏.‏ ‏}‏والناهون عن المنكر‏}‏ قيل‏:‏ عن البدعة‏.‏ وقيل‏:‏ عن الكفر‏.‏ وقيل‏:‏ هو عموم في كل معروف ومنكر‏.‏ ‏}‏والحافظون لحدود الله‏}‏ أي القائمون بما أمر به والمنتهون عما نهى عنه‏.‏

واختلف أهل التأويل في هذه الآية هل هي متصلة بما قبل أو منفصلة فقال جماعة‏:‏ الآية الأولى مستقلة بنفسها يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإن لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية الثانية أو بأكثرها‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هذه الأوصاف جاءت على جهة الشرط والآيتان مرتبطتان فلا يدخل تحت المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف ويبذلون أنفسهم في سبيل الله قاله الضحاك‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا القول تحريج وتضييق ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله ليستبق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى مرتبة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الذي عندي أن قوله‏{‏التائبون العابدون‏}‏ رفع بالابتداء وخبره مضمر؛ أي التائبون العابدون - إلى آخر الآية - لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا إذ لم يكن منهم عناد وقصد إلى ترك الجهاد لأن بعض المسلمين يجزي عن بعض في الجهاد‏.‏ واختار هذا القول القشيري وقال‏:‏ وهذا حسن إذ لو كان صفة للمؤمنين المذكورين في قوله‏{‏اشترى من المؤمنين‏}‏ لكان الوعد خاصا للمجاهدين‏.‏ وفي مصحف عبدالله ‏}‏التائبين العابدين‏}‏ إلى آخرها؛ ولذلك وجهان‏:‏ أحدهما الصفة للمؤمنين على الإتباع‏.‏ والثاني النصب على المدح‏.‏

واختلف العلماء في الواو في قوله‏{‏والناهون عن المنكر‏}‏ فقيل‏:‏ دخلت في صفة الناهين كما دخلت في قوله تعالى‏{‏حم‏.‏ تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم‏.‏ غافر الذنب‏.‏ وقابل التوب‏}‏غافر‏:‏ 1، 2، 3‏]‏ فذكر بعضها بالواو والبعض بغيرها‏.‏ وهذا سائغ معتاد في الكلام ولا يطلب لمثله حكمة ولا علة‏.‏ وقيل‏:‏ دخلت لمصاحبة الناهي عن المنكر الآمر بالمعروف فلا يكاد يذكر واحد منها مفردا‏.‏ وكذلك قوله‏{‏ثيبات وأبكارا‏}‏التحريم‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ودخلت في قوله‏{‏والحافظون‏}‏ لقربه من المعطوف‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنها زائدة، وهذا ضعيف لا معنى له‏.‏ وقيل‏:‏ هي واو الثمانية لأن السبعة عند العرب عدد كامل صحيح‏.‏ وكذلك قالوا في قوله‏{‏ثيبات وأبكارا‏}‏التحريم‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقول في أبواب الجنة‏{‏وفتحت أبوابها‏}‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ وقوله‏{‏ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم‏}‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ وقد ذكرها ابن خالويه في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله‏{‏وفتحت أبوابها‏}‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ وأنكرها أبو علي‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وحدثني أبي رضي الله عنه عن الأستاذ النحوي أبي عبدالله الكفيف المالقي، وكان ممن استوطن غرناطة وأقرأ فيها في مدة ابن حبوس أنه قال‏:‏ هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدوا‏:‏ واحد اثنان ثلاثة أربعة خمس ستة سبعة وثمانية تسعة عشرة وهكذا هي لغتهم‏.‏ ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو‏.‏ قلت‏:‏ هي لغة قريش‏.‏ وسيأتي بيانه ونقضه في سورة ‏[‏الكهف‏]‏ إن شاء الله تعالى وفي ‏}‏الزمر‏]‏ أيضا بحول الله تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 113 ‏)‏

‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم‏}‏

روى مسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال‏:‏ لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله‏)‏ فقال أبو جهل وعبدالله بن أمية‏:‏ يا أبا طالب أترغب عن ملة عبدالمطلب‏.‏ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم‏:‏ هو على ملة عبدالمطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك‏)‏ فأنزل الله عز وجل‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم‏}‏ وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏{‏إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين‏}‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏ فالآية على هذا ناسخة لاستغفار النبي صلى الله عليه سلم لعمه فإنه استغفر له بعد موته على ما روي في غير الصحيح‏.‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ وهذا بعيد لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة‏.‏

هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز‏.‏ فإن قيل‏:‏ فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد حين كسروا رباعيته وشجوا وجهه‏:‏ ‏(‏اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏)‏ فكيف يجتمع هذا مع منع الله تعالى رسوله والمؤمنين من طلب المغفرة للمشركين‏.‏ قيل له‏:‏ إن ذلك القول من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء والدليل عليه ما رواه مسلم عن عبدالله قال‏:‏ كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول‏:‏ ‏(‏رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏)‏‏.‏ وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر نبيا قبله شجه قومه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنه بأنه قال‏:‏ ‏(‏اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا صريح في الحكاية عمن قبله، لا أنه قاله ابتداء عن نفسه كما ظنه بعضهم‏.‏ والله أعلم‏.‏ والنبي الذي حكاه هو نوح عليه السلام؛ على ما يأتي بيانه في سورة ‏[‏هود‏]‏ إن شاء الله‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد بالاستغفار في الآية الصلاة‏.‏ قال بعضهم‏:‏ ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ولو كانت حبشية حبلى من الزنى لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين بقوله‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏}‏ الآية‏.‏ قال عطاء بن أبي رباح‏:‏ الآية في النهي عن الصلاة على المشركين والاستغفار هنا يراد به الصلاة‏.‏ جواب ثالث‏:‏ وهو أن الاستغفار للأحياء جائز لأنه مرجو إيمانهم ويمكن تألفهم بالقول الجميل وترغيبهم في الدين‏.‏ وقد قال كثير من العلماء‏:‏ لا بأس أن يدعو الرجل لأبويه الكافرين ويستغفر لهما ما داما حيين‏.‏ فأما من مات فقد انقطع عنه الرجاء فلا يدعي له‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كانوا يستغفرون لموتاهم فنزلت فأمسكوا عن الاستغفار ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا‏.‏

قال أهل المعاني‏{‏ما كان‏}‏ في القرآن يأتي على وجهين‏:‏ على النفي نحو قوله‏{‏ما كان لكم أن تنبتوا شجرها‏}‏النمل‏:‏ 60‏]‏، ‏}‏وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله‏}‏آل عمران‏:‏ 145‏]‏‏.‏ والآخر بمعنى النهي كقوله‏{‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله‏}‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏، و‏}‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 114 ‏)‏

‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم‏}‏

روى النسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت‏:‏ أتستغفر لهما وهما مشركان‏؟‏ فقال‏:‏ أو لم يستغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه‏.‏ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فنزلت‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه فإن ذلك لم يكن إلا عن عدة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم الخليل أن يؤمن بالله ويخلع الأنداد فلما مات على الكفر علم أنه عدو الله فترك الدعاء له فالكناية في قوله‏{‏إياه‏}‏ ترجع إلى إبراهيم والواعد أبوه‏.‏ وقيل‏:‏ الواعد إبراهيم أي وعد إبراهيم أباه أن يستغفر له فلما مات مشركا تبرأ منه‏.‏ ودل على هذا الوعد قوله‏{‏سأستغفر لك ربي‏}‏مريم‏:‏ 47‏]‏‏.‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ تعلق النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأبي طالب بقوله تعالى‏{‏سأستغفر لك ربي‏}‏مريم‏:‏ 47‏]‏ فأخبره الله تعالى أن استغفار إبراهيم لأبيه كان وعدا قبل أن يتبين الكفر منه فلما تبين له الكفر منه تبرأ منه فكيف تستغفر أنت لعمك يا محمد وقد شاهدت موته كافرا‏.‏

ظاهر حالة المرء عند الموت يحكم عليه بها فإن مات على الإيمان حكم له به وإن مات على الكفر حكم له به وربك أعلم بباطن حاله بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له العباس‏:‏ يا رسول الله هل نفعت عمك بشيء‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ وهذه شفاعة في تخفيف العذاب لا في الخروج من النار على ما بيناه في كتاب ‏}‏التذكرة‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن إبراهيم لأواه حليم‏}‏ اختلف العلماء في الأواه على خمسة عشر قولا‏:‏

‏[‏الأول‏]‏ أنه الدَّعّاء الذي يكثر الدُّعاء؛ قاله ابن مسعود وعبيد بن عمير‏.‏ الثاني‏:‏ أنه الرحيم بعباد الله قاله الحسن وقتادة، وروي عن ابن مسعود‏.‏ والأول أصح إسنادا عن ابن مسعود قاله النحاس‏.‏ الثالث‏:‏ إنه الموقن قاله عطاء وعكرمة ورواه أبو ظبيان عن ابن عباس‏.‏ الرابع‏:‏ أنه المؤمن بلغة الحبشة قاله ابن عباس أيضا‏.‏ ‏[‏الخامس‏]‏ أنه المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفر الموحشة؛ قاله الكلبي وسعيد بن المسيب‏.‏ ‏[‏السادس‏]‏ أنه الكثير الذكر لله تعالى قاله عقبة بن عامر وذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل يكثر ذكر الله ويسبح فقال‏:‏ ‏(‏إنه لأواه‏)‏‏.‏

‏[‏السابع‏]‏ أنه الذي يكثر تلاوة القرآن‏.‏ وهذا مروي عن ابن عباس‏.‏

قلت‏:‏ وهذه الأقوال متداخلة وتلاوة القرآن يجمعها‏.‏

‏[‏الثامن‏]‏ أنه المتأوه؛ قاله أبو ذر وكان إبراهيم عليه السلام يقول‏:‏ ‏(‏آه من النار قبل ألا تنفع آه‏)‏‏.‏ وقال أبو ذر‏:‏ كان رجل يكثر الطواف بالبيت ويقول في دعائه‏:‏ أوه أوه؛ فشكاه أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏دعه فإنه أواه‏)‏ فخرجت ذات ليلة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح‏.‏ ‏[‏التاسع‏]‏ أنه الفقيه قاله مجاهد والنخعي‏.‏ ‏[‏العاشر‏]‏ أنه المتضرع الخاشع رواه عبدالله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال أنس‏:‏ تكلمت امرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم بشيء كرهه فنهاها عمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دعوها فإنها أواهة‏)‏ قيل‏:‏ يا رسول الله، وما الأواهة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الخاشعة‏)‏‏.‏ ‏[‏الحادي عشر‏]‏ أنه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها قاله أبو أيوب‏.‏ ‏[‏الثاني عشر‏]‏ أنه الكثير التأوه من الذنوب قال الفراء‏.‏ ‏[‏الثالث عشر‏]‏ أنه المعلم للخير قاله سعيد بن جبير‏.‏ ‏[‏الرابع عشر‏]‏ أنه الشفيق قاله عبدالعزيز بن يحيى‏.‏ وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يسمى الأواه لشفقته ورأفته‏.‏ ‏[‏الخامس عشر‏]‏ أنه الراجع عن كل ما يكره الله تعالى قاله عطاء وأصله من التأوه، وهو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء‏.‏ قال كعب‏:‏ كان إبراهيم عليه السلام إذا ذكر النار تأوه‏.‏ قال الجوهري‏:‏ قولهم عند الشكاية أوه من كذا ساكنة الواو إنما هو توجع‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها ومن ب عد أرض بيننا وسماء

وربما قلبوا الواو ألفا فقالوا‏:‏ آه من كذا‏.‏ وربما شددوا الواو وكسروها وسكنوا الهاء فقالوا‏:‏ أوه من كذا‏.‏ وربما حذفوا مع التشديد الهاء فقالوا‏:‏ أو من كذا بلا مد‏.‏ وبعضهم يقول‏:‏ آوه بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاء لتطويل الصوت بالشكاية‏.‏ وربما أدخلوا فيها التاء فقالوا‏:‏ أوتاه يمد ولا يمد‏.‏ وقد أوه الرجل تأويها وتأوه تأوها إذا قال أوه، والاسم منه الآهة بالمد‏.‏ قال المثقب العبدي‏:‏

إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين

والحليم‏:‏ الكثير الحلم وهو الذي يصفح عن الذنوب ويصبر على الأذى‏.‏ وقيل‏:‏ الذي لم يعاقب أحدا قط إلا في الله ولم ينتصر لأحد إلا لله‏.‏ وكان إبراهيم عليه السلام كذلك وكان إذا قام يصلي سمع وجيب قلبه على ميلين‏.‏